اخبار كل الصحف

إشكالية “المكان” في الدراسات النقدية: جدل المفهوم وتقاطعاته مع “الفضاء”

بقلم:روان خالد

يُعد “المكان” من أكثر المصطلحات إثارة للجدل في الدراسات النقدية، إذ يعتريه التباس مفاهيمي واضح، يتجلّى خصوصًا عند تقاطعه مع مصطلح “الفضاء”. وللخوض في هذه الإشكالية، لا بد أولًا من الوقوف عند معنى “المكان” في اللغة والاصطلاح.

أولًا: المكان في اللغة
ورد في المعجم الوجيز أن المكان يعني “الموضع أو الكون”، فيما عرّفه المعجم الوسيط بأنه “موضع كون الشيء”، وهو ما يتقاطع مع تعريف الصحاح للجوهري حيث ورد ببساطة على أنه “الموضع”. تشترك هذه التعاريف في كونها تُحيل إلى بعد مادي ملموس، يعبّر عن الحيّز الذي تشغله الأشياء.

ثانيًا: المكان في الاصطلاح النقدي
عند الانتقال إلى الحقل النقدي، نجد أن المفهوم يأخذ أبعادًا أكثر عمقًا وتركيبًا. فقد حدّد حسن بحراوي في كتابه بنيةالشكل الروائي أن “الوضع المكاني في الرواية يمكنه أن يُصبح محددًا أساسيًا للمادة الحكائية، ولتلاحق الأحداث والحوافز، أي أنه سيتحول في النهاية إلى مكوّن روائي جوهري ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور”. هذا الطرح يؤكد أن المكان في العمل السردي ليس مجرد خلفية، بل عنصر بنائي فاعل في تشكيل المعنى والحبكة.

أما سمر روحي الفيصل فقد عرّف “المكان الفني” بأنه “المكان اللفظي المتخيل، أي الذي صنعته اللغة انصياعًا لأغراض التخييل الروائي وحاجاته”، وهو بذلك يشير إلى مكان مصنوع من الكلمات، يستفزّه الخيال وتبنيه اللغة بإيحائها.

ثالثًا: تمييز بنيوي بين المكان الواقعي والمتخيل
يُفرّق البنيويون بين نوعين من المكان:
​•​المكان الخارجي: وهو الحقيقي المتموضع على الخارطة الجغرافية، وقد أُطلقت عليه تسميات مثل: “الواقعي”، و”الطبيعي”، و”المرجعي”.
​•​المكان الروائي: وهو مكان متخيّل، ينبثق من اللغة والخيال، ويُعاد تشكيله وفق رؤية الكاتب.

وعلى الرغم من أن الروائي غالبًا ما ينطلق من المكان “الهندسي” الواقعي، إلا أن العمل السردي يتطلب تمردًا على هذا الواقع لصنع مكان فني نابض، متحرر من القيود الجغرافية.

رابعًا: الفضاء والمكان… تداخل المصطلحين
أشارت الدراسات الحديثة إلى وجود خلط شائع بين مصطلحي “المكان” و”الفضاء”. وقد تطرّق حسن نجمي إلى هذا التداخل في كتابه شعرية الفضاء، معتبرًا أن اللبس بدأ مع ترجمة كلمة “Espace” إلى “مكان”، مؤكدًا أن الفضاء يبنى على وجود المكان، وأن العلاقة بينهما تكاملية لا انفصالية.

أما حميد الحمداني، فقد تناول القضية في بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، مؤيدًا صعوبة الفصل بين المصطلحين، ومقترحًا أن “الفضاء أشمل وأوسع من المكان، فبينما يتوقف الزمن في المكان، فإن الزمن في الفضاء يستمر”.

ويذهب حسن بحراوي إلى أن المكان يتحول إلى “فضاء” عندما يكتسب بعدًا دلاليًا متصلًا بالتجربة الإنسانية، مشددًا على ضرورة التمييز بين المصطلحين وعدم التعامل معهما كمترادفين.

خامسًا: الفضاء كمصطلح إشكالي
الفضاء -في تقديري- لا يزال مصطلحًا مربكًا وشائكًا، لم يستقر بعد على دلالة نقدية واحدة. وقد سبق أن أشار إلى ذلك حميد الحمداني حين قال: “إن الأبحاث المتعلقة بدراسة الفضاء في الحكي تعتبر حديثة العهد، ولم تتطور بعد لتؤلف نظرية متكاملة”. كما أكد أن ما يُطرح حوله لا يزال في نطاق الاجتهادات الفردية.

وبناءً على ما سبق، فإن ميلي ينصرف إلى استخدام مصطلح “المكان”، باعتباره أكثر رسوخًا واستيعابًا لطبيعة التحليل النقدي في السياق العربي.

وأخيرًا إن المكان في النص الروائي لم يعد مجرّد خلفية صامتة، بل تحوّل إلى عنصر دينامي يُسهم في خلق الدلالة وتحريك السرد. وبينما تتكاثر الاجتهادات لتوسيع المفهوم نحو “الفضاء”، لا يزال الأخير بحاجة إلى بلورة نظرية شاملة تستوعب أبعاده الزمنية والدلالية. وفي هذا السياق، يظلّ التمييز بين المصطلحين ضروريًا لفهم البنية السردية بشكل أكثر وعيًا وعمقًا.

راشد عثمان

*خريج جامعة القاهرة. *صحفي في جريدة الرياض منذ أكثر من 22 عاما. *عمل مستشارا إعلاميا في العديد من القطاعات. أشرف على إدارة وسائل التواصل الاجتماعي في القطاع الحكومي والخاص. * مفوض تنمية قدرات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى