سياسات واشنطن تهدد بإشعال حرب عملات لا يتحملها العالم
في عام 1971 قال جون كوناللي وزير الخزانة الأمريكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون لدول العالم التي كانت تشكو من تضرر اقتصاداتها من تقلبات سعر صرف الدولار الأمريكي “هذه عملتنا لكنها مشكلتكم”.
والآن وبعد 4 عقود على هذا التصريح يهدد تراجع قيمة العملة الأمريكية باشتعال حرب عملات شاملة في العالم، وهو ما يمكن أن يشتت انتباه صناع السياسة عن مهتمهم الأساسية وهي إنعاش اقتصاد العالم بعد جائحة فيروس كورونا المستجد، بحسب ما ذكرت “الألمانية”.
وأشار المحللان الاقتصاديان مارك جيلبرت وماركوس أشوورث في تحليل مشترك نشرته وكالة بلومبرج للأنباء إلى أن العملة الأمريكية تأخذ اتجاها منخفضا خلال الشهور الأخيرة. ثم جاء إعلان مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي تحولا جديدا نحو سياسة نقدية أكثر تساهلا، حيث قال إنه سيسمح بارتفاع معدل التضخم والبطالة إلى مستويات أعلى مما كان يستهدف سابقا، مع السماح باستمرار المعدلات المرتفعة لفترات أطول وهو ما يعني استمرار تدهور الدولار.
وقال لائيل بيرنارد عضو مجلس محافظي مجلس الاحتياط في كلمة له قبل أيام “لو أننا كنا غيرنا أهداف السياسة النقدية والاستراتيجية بحسب ما جاء في البيان الجديد، منذ سنوات، لكن من المحتمل التخلي عن السياسة النقدية التكيفية الحالية في وقت لاحق، ولكنا قد حققنا مكاسب أكبر”. ويعني هذا أن البنك المركزي الأمريكي سيؤخر اللجوء إلى زيادة أسعار الفائدة في المستقبل، لوقت أطول مما كان يفعل في السابق.
و سوف يشجع تطبيق الاستراتيجية التي أعلنها رئيس مجلس الاحتياط الاتحادي جيروم باول بعد مراجعة استمرت عاما، التجار الذين يتكهنون بالفعل بتراجع الدولار على المراهنة على اليورو بمستويات قياسية.
وسجل اليورو بالفعل صعودا مطردا أمام العملات الرئيسية للشركاء التجاريين الأساسيين لمنطقة اليورو وهو ما أصاب البنك المركزي الأوروبي
بدرجة من التوتر، ودفع كبير خبرائه الاقتصاديين فيليب لين إلى القيام بتدخل لفظي نادر ومحدود في سوق الصرف خلال الأسبوع الماضي.
وقال لين يوم الثلاثاء الماضي إن “سعر صرف اليورو أمام الدولار أمر مهم… إذا كانت هناك قوى تحرك سعر صرف اليورو أمام الدولار، فهذه القوى تؤثر على توقعاتنا العالمية والأوروبية وهذا في المقابل يؤثر على صياغة سياستنا النقدية”.
وبحسب المحللين الاقتصاديين مارك جيلبرت وماركوس أشوورث، فإن محاولة رقيقة لخفض قيمة اليورو، تشير إلى أن البنك المركزي الأوروبي غير مرتاح للقيمة الحالية للعملة الأوروبية الموحدة والتي تزيد حاليا عن 1.2 دولار لكل يورو، وهو المستوى الذي كان قد تجاوزه لفترة قصيرة لأول مرة منذ عامين، قبل أن تؤدي تصريحات لين إلى تراجع اليورو، ليصل إلى متوسط مستوى قيمته منذ طرحه عام 1999 .
ومن السهل تعريف هاجس البنك المركزي الأوروبي. فكلما ارتفعت قيمة اليورو، زادت التاثيرات المضادة للتضخم حيث تصبح أسعار السلع الأجنبية أقل. وغالبا ما كان الكساد المستورد مع السلع الرخيصة، وبخاصة من الصين عاملا أساسيا لاستمرار التضخم المنخفض في الكثير من الدول المتقدمة.
ويرى مارك جيلبرت وماركوس أشوورث أن خيارات البنك المركزي الأوروبي لرفع معدل التضخم إلى المستوى المستهدف محدودة، في ظل أسعار فائدة تقل عن صفر في المئة وإطلاق برامج تخفيف كمي ضخمة. والحقيقة ان منطقة اليورو في مرحلة كساد من الناحية الفعلية، بعد انخفاض معدل تضخم أسعار المستهلك خلال أغسطس الماضي إلى سالب 0.2 في المئة.
وهناك عوامل عديدة يمكن أن تكون قد ساهمت في انخفاض الأسعار بهذا الشكل، لكن ما يثير قلق صناع السياسة النقدية بصورة أكبر هو التراجع الحاد في معدل التضخم الأساسي الذي لا يتضمن أسعار الغذاء والطاقة الأشد تقلبا إلى 0.4 في المئة.
والحقيقة أن التباين الواضح في توقعات التضخم بين الولايات المتحدة وأوروبا يفسر بدرجة كبيرة ارتفاع قيمة العملة الأوروبية الموحدة أمام
الدولار بنسبة 6 في المئة خلال العام الحالي. ووصل مؤشر معدل التضخم في منطقة اليورو للسنوات الخمس المقبلة إلى 22ر1 في المئة، وهو ما يقل بمقدار نقطة مئوية تقريبا عن قراءة مؤشر معدل التضخم الأمريكي والذي يبلغ 2.14 في المئة.
من جانبه يمارس مجلس الاحتياط الاتحادي سياسة التجاهل الحميد لسوق العملة، ويتيح للبنوك المركزية في العالم الحصول على السيولة الدولارية بدون قيود منذ بداية جائحة كورونا. ومن أجل مصلحة الاقتصاد الأمريكي ومصلحة العديد من الدول النامية، لا يبدو أن البنك المركزي الأمريكي سيتعجل التخلي عن السياسة النقدية الحالية.
وهذا يعني أن البنك المركزي الأوروبي يخوض معركة ضد حائط من اللامبالاة لمنع صعود قيمة العملة الأوروبية. علاوة على ذلك فإن شواهد التاريخ تقول إن البنوك المركزية عاجزة نسبيا عن تغيير القيمة السوقية لعملاتها.
فالبنك المركزي الياباني على سبيل المثال أنفق حوالي 80 مليار دولار خلال الفترة من يناير 1999 إلى أبريل 2000 لكنه فشل في وقف صعود العملة اليابانية أمام الدولار. وخلال تلك الفترة ارتفع الين الياباني أمام العملة الخضراء إلى 101.46 ين لكل دولار في حين أن متوسط السعر كان 125 ين لكل دولار. ولم يتوقف صعود الين إلا عندما بدأ المتعاملون يشكون في أداء الاقتصاد الياباني، ولم يبدأ الين يتراجع إلا عندما أصبحت الأدلة على تباطؤ الاقتصاد الياباني غير قابلة للتشكيك.
ومع استمرار تصور مجلس الاحتياط الاتحادي أنه يمتلك من أدوات السياسة النقدية أكثر مما تمتلكه البنوك المركزية الأخرى، سيواصل الدولار اتجاهه الهبوطي. وإذا لم تتغير هذه النظرة، فسيضطر البنك المركزي الأوروبي إلى تحمل ارتفاعات جديدة في قيمة اليورو، ومقاومة الدعوات المطالبة بالتدخل للحد من هذا الارتفاع، وإلا فسيخاطر البنك بتأجيج التوترات التجارية بين جانبي المحيط الأطلسي في الوقت الذي تتزايد فيه هشاشة الاقتصاد العالمي.