جولة في دولة

#رحلة_إلى_القرية_المغربية التي “نسيها الزمن” ليزا فوريمان


جابت الكاتبة ليزا فورمان جبال الأطلس الأعلى بالمغرب بحثا عن قرية “إديهر” النائية التي نساها الزمن.
جاء ذلك وفق ما نقله موقع BBC Travel
وانطلق أحد المستكشفين في رحلة بين جبال المغرب مقتفيا أثر خمسة سبقوه عام 1955 في مغامرة مدهشة.

واصلت مركبتنا الصعود بين دروب جبال الأطلس الأعلى، وفي الأسفل بدا بريق التربة التي كانت تكسوها بقع خضراء من الغابات، وأخرى بيضاء من الثلج.

تملكني جمال المرتفعات الأعلى بشمال إفريقيا وأنا أطل من النافذة، وكان انبهاري مصحوبا بقشعريرة؛ إذ رأيت أن لا شيء يفصلنا عن جرف الجبل والوادي السحيق أسفله.

بدأت رحلتنا قبل ساعة عند سفح الجبل من مدق قديم كانت تسلكه القوافل التي جابت تلك البقاع في طريقها إلى مراكش منذ قرون مضت عبر الصحراء، حاملة الذهب والعاج والأقمشة من بقاع بعيدة مثل تمبكتو والسودان وغانا، إلى الساحل المغاربي.


واليوم لم تعد القرى التي كانت تصطف بمحاذاة ذلك الدرب المتعرج إلا بقاعا متناثرة يقصدها الزوار للتزود بالطعام والشراب.

توقفت بإحدى تلك القرى، وتدعى “تادرت” صباحا وأنا أمسك بنسخة قديمة من كتاب “قرية البربر: قصة بعثة جامعة أكسفورد لجبال الأطلس الأعلى بالمغرب”، وقد نشر الكتاب عام 1959 وألفه برايان كلارك المشارك بالبعثة، والذي وصف فيه مغامرة مدهشة لخمسة طلاب من جامعة أكسفورد على مدار 17 يوما عام 1955، قبل بلوغ قرية بعيدة تدعى “إديهر”.


كان الطلاب قد استقلوا شاحنة عسكرية قديمة وقد رغبوا في دراسة الجغرافيا والبيئة الطبيعية وعادات هذا الركن القصي بأعلى سلاسل جبال العالم العربي.

وقع اختيار طلاب أوكسفورد على “إديهر” لموقعها النائي وعزلتها عن المدنية الحديثة
تزامنت بعثة أوكسفورد مع قلاقل عمت المنطقة، إذ خضع المغرب للحماية الفرنسية منذ عام 1912 وبعد نفي السلطان محمد الخامس عام 1953 اندلعت أعمال عنف قمعتها سلطات الاستعمار بقسوة لإخماد جذوة الحركة القومية بالمغرب.

وبينما استعد الطلاب للانتقال من إنجلترا إلى سان سيباستيان بإسبانيا متأهبين للعبور إلى المغرب عبر جبل طارق صيف عام 1955، كان الاحتلال الفرنسي يترنح وكانت البلاد بانتظار المجهول.


ومع وصول الطلاب إلى شمال أفريقيا بحثوا عن قرية نائية تناسب غايتهم طالبين الحماية من ذوي الأمر، ومنهم التهامي الكلاوي والذي عرف بباشا مراكش عام 1912، وقبلها بسيد الأطلس إذ سيطر على درب القوافل عبر جبال جنوب المغرب، وكان له قصره الشهير في تيلويت بوسط البلاد وعُد بين أثرى أثرياء العالم إبان وفاته عام 1956.

أمضى الطلاب ليلتهم لدى الكلاوي قبل أن يرتب أحد الشيوخ لهم قافلة من البغال تحمل أمتعتهم بينما سار الطلاب مسافة 35 كيلومترا من تيلويت إلى إديهر.

واليوم أتيتُ مثل هؤلاء الطلاب إلى المغرب بحثا عن مغامرة. فبعد أن عشت في الولايات المتحدة لعقد من الزمان، وفدت إلى المغرب على أمل كتابة رواية، وذات يوم وبينما كنت أتفقد الكتب بإحدى مكتبات الدار البيضاء وقع بصري على قصة تلك البعثة وتملكتني أخبار الصعاب التي واجهها مغامروها الخمسة، وبينهم مترجم مغربي ودارس لعلم الحيوان وآخر دارس لعلم أعراق البشر وثالث للجغرافيا، فضلا عن باحث نباتات.

ويروي الكتاب أنه خلال الرحلة التي دامت 17 يوما كان الطلاب ينامون بشرفة أحد المسؤولين البريطانيين، وأسعدهم الحظ بلقاء المستكشف الشهير ويلفرد تيسيغر وكادوا أن يقعوا بين أيدي اللصوص في مراكش. وبعد وصولهم إلى “إديهر” خيموا لسبعة أسابيع قضوها في البحث.

وجاء تمويلهم الرئيسي من القائمين على نادي المستكشفين بجامعة أوكسفورد ليتمكنوا من شراء شاحنتهم فضلا عن مبلغ مئة جنيه إسترليني تلقوها مقدما من مجلة ناشيونال جيوغرافيك مقابل كتابة مقال عن الرحلة.


وفي الأسابيع السابقة على الرحلة استعد الطلاب بالكثير من الطعام والبنسلين ولوازم النظافة الشخصية، ويذكر كلارك أن سيدة عجوز استأجر لديها غرفة أعطته من الشطائر ما يكفيه للرحلة وقد صنعتها خصيصا له.

وقد وقع اختيار الطلاب على إديهر لموقعها النائي بأعلى جبال الأطلس رغبة منهم في الوقوف على مكان لم تمسه المدنية الحديثة حتى يتسنى لهم دراسة معتقدات سكانه وأساليب زراعتهم.

عام 1955 سافر خمسة طلاب من جامعة أوكسفورد إلى قرية إديهر على أمل التمكن من دراسة جغرافيا المنطقة وبيئتها الطبيعية وعادات سكانها
ونصب الطلاب خيمهم بجانب جدول ماء قرب شجرة جوز ضخمة في قلب القرية.

ويقول كلارك إنه مع مرور الأيام نشأت صداقة بين الطلاب والقرويين الذين قبلوا الدعوة لخيمة المستكشفين لشرب الشاي وبادلوهم الدعوة لديارهم البسيطة حيث قدموا لهم طعاما من الطواجن المطهوة بعناية.

وخلال ذلك كشف السكان للزوار عن معتقدات بدائية تتعلق بقوى الطبيعة يؤمنون بها، فضلا عن اعتقادهم في الجن، وبدأوا ينظرون إلى الطلبة كأنهم معالجون خارقون بعد أن قدموا لهم بعضا مما لديهم من البنسلين.

وكلما قرأت ما كتبه كلارك استبد بي الشغف لمعرفة ماذا حدث مع إديهر، وهل القرية مازالت موجودة؟

طالعت خرائط غوغل وسألت مغاربة في مراكش باللغة العربية ولم يستطع أحد أن يدلني على شيء. بل اتصلت بأرملة كلارك وسألتها إن كان أي من فريق البعثة عاد مجددا، وعلمت أن كلارك لم يعد وأن لا علم لها بالآخرين.

ويبدو أن تلك النقطة الصغيرة على الخريطة تلاشت تماما ولم يعد من دليل عليها إلا خريطة بسيطة رسمت باليد احتوى عليها كتاب كلارك باعتبار وقوعها على مسافة 16 كيلومترا من بلدة زركتن بين قريتي تادرت وتيلويت في إقليم الحوز، ولم أكن أعرف ما إذا كان اسم القرية تغير أم أنها اختفت تماما وأردت أن أقف على الحقيقة.

وبدا أن تادرت أقرب قرية على الخرائط الحديثة من الموقع الذي حدده كلارك لإديهر، فقدت السيارة لثلاث ساعات من مراكش وكان السائق بمثابة مترجم لي عسى أن أعرف مصير إديهر.

تجمع حولنا مجموعة من الرجال وحملقوا في كتاب كلارك بينما كررت أنا والسائق اسم القرية على مسامعهم، ونظروا مليا في الخريطة اليدوية وأخيرا أشار أحدهم إلى الجبال البعيدة، بعدها أعاننا ميكانيكي سيارات طيب يدعى كريم بتأكيده أن إديهر موجودة وسوف يأخذني هناك.

خلال الرحلة إلى إديهر تعرف طلاب أوكسفورد على معتقدات بدائية لسكان القرية من الإيمان بقوى الطبيعة والغيبيات

انتظرت بمقهى على الطريق في تادرت برفقة كتاب كلارك مفتوحا على منضدة بينما اتصل كريم بصديق له، وبدأت بعثة ارتجالية شملتني وسائقي وكريم وصديقه، وكانت سيارته هي الأضخم في الناحية، وهي رباعية الدفع قادرة على السير بين الجبال.

اليوم تبدو إديهر مطابقة لصور كتاب بعثة أوكسفورد
ومرت ساعة صعودا بين طرق وعرة بينما كانت السيارة تقترب بخطورة من حافة الجبل، حتى تملكني الخوف ولم أستطع مواصلة الرحلة، فرجوت السائق التوقف وأغلقت الباب وبدأت رحلة النزول.

لقد شعرت بخيبة الأمل رغم أنني اكتشفت وجود إديهر، وبات عليّ أن أجد سبيلا آخر للوصل إليها. عدت أنا وكريم والسائق من تادرت إلى مراكش ذاك المساء، وطمأنني كريم إلى أنه سيسعى لإيجاد طريق أهون إلى القرية مؤكدا أنه لا يريد مني شيئا مقابل ذلك.

ومرت بضعة أيام وتلقيت مكالمة منه، فقد قرر أن نستقل السيارة الرباعية في درب مختلف، ولكن على قدر ما كنت أطوق لاقتفاء نفس أثر رحلة الطلبة بطول 35 كيلومترا من تيلويت أثنتني الخطورة عن ذلك فعهدت إلى كريم مهمة إيجاد سبيل آخر.

انطلقنا بعد سبعة أيام، وبينما غادرت وكريم والسائق مراكش واتجهنا إلى الجبال سلكنا درب القوافل القديم نحو الجبال ذات القمم المغطاة بالثلوج.

رأينا النساء يغسلن الملابس في قنوات الماء والريح تحرك سجاجيد تركت للهواء على جانب الطرق بينما سارت البغال متهادية تمر ببيوت بسيطة.

وبعد نحو ثلاث ساعات تركنا درب القوافل واقتربنا من تادرت من الجانب المقابل للجبال كما فعلنا في رحلتنا السابقة.

ورغم أن إديهر لم تبعد أكثر من 20 كيلومترا استغرقت الرحلة عدة ساعات قطعنا خلالها جداول مياه وسرنا بسرعة السلحفاء ووجدنا أنفسنا على درب مترب بينما ارتفعت قمم جبال الأطلس الأعلى في الأفق وبدت تظهر وتختفي بين وقت وآخر. وأخيرا بدت القرية الصغيرة عبارة عن بضعة بيوت بسيطة قرب غدير ماء متدفق من الجبال.

حيا كريم سكان القرية بالعربية وبالأمازيغية وخرج رجال بالجلباب التقليدي الطويل وظهرت على استحياء نساء بملابس وأغطية رأس زاهية. بدا أنهم ليسوا معتادين على زوار من الخارج.

لم تختلف الحياة كثيرا عما كانت يوم زارها طلاب أوكسفورد وكذلك وسائل الزراعة التي ينتهجها سكان القرية و لم تختلف الحياة كثيرا عما كانت يوم زارها طلاب أوكسفورد وكذلك وسائل الزراعة التي ينتهجها سكان القرية
جزت بين بساتين ورأيت الماعز ورافقتني صحبة من الأطفال إلى الغدير أسفل القرية حتى وجدت شجرة الجوز التي تحدث عنها كلارك. تألفت القرية من منازل زات أسقف منخفضة ألوانها رملية اصطفت في مربع كان صف منها بجوار حافة الجبل أعلى الغدير تماما كالصور في كتاب بعثة طلاب أوكسفورد.

أخرج سكان القرية صورا بالأبيض والأسود لأجنبي توقف بالمكان قبل سنين طويلة. طلبت أن أصور النسوة وحملقن في الصور على جهاز الآيباد لدى بذهول إذ لا هواتف محمولة ولا كاميرات هنا.

أريتهم نسخة من الكتاب الذي يصف قريتهم وسألت إن كان أحد يتذكر الطلبة الأجانب ولكن أحدا لم ير الكتاب قبلا وقلائل من ميزوا صور بعض المتوفين من كبار القرية.

ولا يبدو أن شيئا تغير كثيرا في إديهر عن أيام بعثة أوكسفورد إلا أن مركبة تنقل الآن سكان القرية إلى تادرت بين الحين والحين.

والناس يعملون بالأرض كما فعلوا منذ أجيال، ومازالوا يحتفلون بتناول اللحم المطهو بعناية وأطباق الخضر في طواجن خاصة، وقد قدموا لي بعضا منها ذاك اليوم.

ولم يوجد إلا جهاز تلفاز واحد قديم غير متصل بكهرباء للقرية، وبدا السكان في قناعة بما لديهم وهو اليسير ومازالوا يشترون أغراضا من رجال جائلين يستبشرون بهم فألا حسنا.

أمضيت وقتا قصيرا بالقرية وغادرت قبل حلول الظلام مكانا لم يعد على الخارطة ومن الصعب العثور عليه إلا مصادفة، ولكني وجدته وحلمت بالعودة يوما لأخيم فيه كما فعل الطلاب قبل سنين طوال.

ولا يتوافر لدي تمويل من جامعة أو مجلة علمية، ولكنني أيقنت أن العزم كاف لمن أراد اليوم الاكتشاف، وربما لست أول من يستكشف إديهر ولكن بفضل كرم الغرباء شعرت أنني أعدت اكتشاف سر صغير مخفي عن الأعين تناساه الدهر بين الجبال.

يمكنكم قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى